كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواجَ وغيرَهم قال سعد بن معاذ: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلًا أمهله حتى آتي بأربعة! والله لأضربنّه بالسيف غير مُصْفح عنه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من غَيْرة سعدٍ لأنا أغْيَرُ منه واللَّهُ أغْيَرُ مني» وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة، هذا نحو معناها.
ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بِشَريك بن سَحْماء البَلَوِي على ما ذكرنا، وعزم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ضربه حدّ القذف؛ فنزلت هذه الآية عند ذلك، فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وتلاعنا، فتلكّأت المرأة عند الخامسة لمّا وُعِظت وقيل إنها موجِبة؛ ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم؛ فالْتَعَنَت، وفرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وولدت غلامًا كأنه جَمَلٌ أوْرَق على النعت المكروه ثم كان الغلام بعد ذلك أميرًا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبًا.
وجاء أيضًا عُوَيْمِر العَجْلانيّ فرمى امرأته ولاعن.
والمشهور أن نازلة هلال كانت قبلُ، وأنها سبب الآية.
وقيل: نازلة عُويمر بن أشقر كانت قبلُ؛ وهو حديث صحيح مشهور خرّجه الأئمة.
قال أبو عبد الله بن أبي صُفْرة: الصحيح أن القاذف لزوجه عُويمر، وهلال بن أمية خطأ.
قال الطبريّ يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية: وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجَدّ بن العَجْلاني، شهد أُحُدًا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، رماها بِشَرِيك بن السَّحْماء، والسَّحماء أمه؛ قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبدة بن الجدّ بن العَجْلاني؛ كذلك كان يقول أهل الأخبار.
وقيل: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم على الناس في الخطبة يوم الجمعة {والذين يَرْمُونَ المحصنات} فقال عاصم بن عَدِيّ الأنصاري: جعلني الله فداك! لو أن رجلًا منّا وجد على بطن امرأته رجلًا؛ فتكلم فأخبر بما جرى جُلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقًا فلا تقبل شهادته؛ فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته! فقال عليه السلام: «كذلك أنزلت يا عاصم بن عَدِيّ» فخرج عاصم سامعًا مطيعًا؛ فاستقبله هلال بن أمية يسترجع؛ فقال: ما وراءك؟ فقال: شر! وجدت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خَولة يزني بها؛ وخولة هذه بنت عاصم بن عديّ، كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع امرأته شريكًا هو هلال بن أمية، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه.
قال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكًا عُوَيمرٌ العَجْلاني؛ لكثرة ما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لاعن بين العَجْلاني وامرأته.
واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبدة وأمه السحماء، وكان عُويمر وخولةُ بنت قيس وشَرِيك بني عم عاصم، وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة، منصرَف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تَبُوك إلى المدينة؛ قاله الطبري.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن عبد الله بن جعفر قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين عُويمر العجلاني وامرأته، مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غَزْوة تَبُوك، وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السَّحْماء؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هاتِ امرأتك فقد نزل القرآن فيكما»؛ فلاعن بينهما بعدالعصر عند المنبر على خَمْل في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبي أنس قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول. فذكره.
الثالثة: قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} عامّ في كل رَمْي، سواء قال: زنيتِ أو يا زانية أو رأيتها تزني، أو هذا الولد ليس مني؛ فإن الآية مشتملة عليه.
ويجب اللّعان إن لم يأت بأربعة شهداء؛ وهذا قول جمهور العلماء وعامّةِ الفقهاء وجماعة أهل الحديث.
وقد روي عن مالك مثل ذلك.
وكان مالك يقول: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني؛ أو ينفي حملًا أو ولدًا منها.
وقول أبي الزِّناد ويحيى بن سعيد والبَتِّي مثلُ قول مالك: إن الملاعنة لا تجب بالقذف، وإنما تجب بالرؤية أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء؛ هذا هو المشهور عند مالك، وقاله ابن القاسم.
والصحيح الأوّل لعموم قوله: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}.
قال ابن العربيّ: وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية؛ فلتُعَوِّلوا عليه، لاسيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فاذهب فأت بها» ولم يكلفه ذكر الرؤية.
وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته.
ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى؛ قاله ابو عمر.
وقد ذكر ابن القصّار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجه في فرجها.
والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تِيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلًا، فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يَهِجْه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلًا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتدّ عليه؛ فنزلت: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} الآية؛ وذكر الحديث.
وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت في الرؤية، فلا يجب أن يُتعدَّى ذلك.
ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حدّ؛ لعموم قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات}.
الرابعة: إذا نفى الحمل فإنه يلتعن؛ لأنه أقوى من الرؤية ولابد من ذكر عدم الوطء والاستبراء بعده.
واختلف علماؤنا في الاستبراء؛ فقال المغيرة ومالك في أحد قوليهما: يجزي في ذلك حَيْضة.
وقال مالك أيضًا لا ينفيه إلا بثلاث حِيَض.
والصحيح الأوّل؛ لأن براءة الرحم من الشَّغل يقع بها كما في استبراء الأمَة، وإنما راعَيْنا الثلاث حِيَض في العدد لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى.
وحكى اللَّخْمِيّ عن مالك أنه قال مرة: لا يُنْفَى الولد بالاستبراء؛ لأن الحيض يأتي على الحمل.
وبه قال أشهب في كتاب ابن المَوّاز، وقاله المغيرة.
وقال: لا يُنْفَى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدّم.
الخامسة: اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرّين كانا أو عبدين، مؤمنَيْن أو كافرين، فاسقَين أو عَدْلَين.
وبه قال الشافعيّ.
ولا لعان بين الرجل وأَمَته، ولا بينه وبين أمّ ولده.
وقيل: لا ينتفي ولد الأمة عنه إلا بيمين واحدة؛ بخلاف اللعان.
وقد قيل: إنه إذا نفى ولدَ أم الولد لاعن.
والأوّل تحصيل مذهب مالك، وهو الصواب.
وقال أبو حنيفة: لا يصح اللعان إلا من زوجين حُرّين مسلمين؛ وذلك لأن اللعان عنده شهادة، وعندنا وعند الشافعيّ يمين، فكلّ من صحت يمينه صح قذفه ولعانه.
واتفقوا على أنه لابد أن يكونا مكلَفَيْن.
وفي قوله: وجد مع امرأته رجلًا.
دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين؛ لأنه لم يخص رجلًا من رجل ولا امرأة من امرأة، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب فقال: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ولم يخص زوجًا من زوج.
وإلى هذا ذهب مالك وأهل المدينة؛ وهو قول الشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثَوْر.
وأيضًا فإن اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه الطلاق؛ فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه.
واللعان أيمان لا شهادات؛ قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] أي أيماننا.
وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1].
ثم قال تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16].
وقال عليه السلام: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» وأما ما احتج به الثورِيّ وأبو حنيفة فهي حجج لا تقوم على ساق؛ منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان» أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من طرق ضعفها كلَّها.
وروي عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته.
وأيضًا فلو كانت يمينًا ما رُدّدت، والحكمة في ترديدها قيامها في الأعداد مقام الشهود في الزنى.
قلنا: هذا يبطل بيمين القَسَامة فإنها تُكَرّر وليست بشهادة إجماعًا؛ والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء.
قال ابن العربي: والفَيْصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدّعي في الشريعة أن شاهدًا يشهد لنفسه بما يوجب حكمًا على غيره! هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر.
السادسة: واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس؛ فقال مالك والشافعيّ: يلاعن؛ لأنه ممن يصح طلاقه وظِهاره وإيلاؤه، إذا فُهم ذلك عنه.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن؛ لأنه ليس من أهل الشهادة، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر اللعان، فلا يمكننا إقامة الحدّ عليه.
وقد تقدم هذا المعنى في سورة مريم والدليل عليه، والحمد لله.
السابعة: قال ابن العربي: رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال: إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنى قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن؛ ونسي أن ذلك قد تضمّنه قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} وهذا رماها محصنة غير زوجة؛ وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانًا، كما لو قذف أجنبية.
الثامنة: إذا قذفها بعد الطلاق نظرت؛ فإن كان هنالك نسب يريد أن ينقيه أو حَمْل يتبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن.
وقال عثمان البَتِّي: لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن في الوجهين؛ لأنها ليست بزوجة.
وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفًا، بل هذا أولى؛ لأن النكاح قد تقدم وهو يريد الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يُلحق به فلابد من اللعان.
وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به، وكان قذفًا مطلقًا داخلًا تحت عموم قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} الآية، فوجب عليه الحدّ وبطل ما قاله البَتِّي لظهور فساده.
التاسعة: لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدّة إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبًا فتأتي امرأته بولد في مغيبه وهو لا يعلم فيطلّقها فتنقضي عدّتها، ثم يَقْدَم فينفيه فله أن يلاعنها هاهنا بعد العدّة.
وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدّة من العدّة، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما.
العاشرة: إذا انتفى من الحمل ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع؛ وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لأنه يحتمل أن يكون ريحًا أو داء من الأدواء.